<H1 style="LINE-HEIGHT: 150%" align=center>سوبرمان المصري ..
في بلاد الغربة
رغم العتمة.. وقسوة الظلمة سبق أقرانه في كل مراحل الدراسة.. وتفوق عليهم حتي أصبح معيدا في كلية الألسن جامعة عين شمس.. ولكنهم أرادوا لجمه وفرملة طموحه بظلم أشد قسوة من الظلمة.. ولكنه تمرد علي الظلم، وإن رضي بالظلمة، فقفز الحواجز وتخطي الحدود.. وسافر إلي النمسا وحصل هناك علي درجة الدكتوراه.. ثم حصل علي الدكتوراه الثانية من ألمانيا.. ولم يكتف بذلك بل نبغ في الكمبيوتر وأصبح مستشارا لعدة شركات هناك.. بل العجيب أنه يفك أجزاء 'الدش' ويعيد تركيبه قطعة.. قطعة!
ما إن حل صيف عام 1979 حتي حمل الفتي حقيبته وسافر إلي العاصمة النمساوية فيينا تاركا أسرته غارقة في مشاعر امتزجت فيها الدهشة بالحيرة والخوف عليه من المجهول أو بالأحري الفشل الذي لا شك سينتظره هناك في هذه البلاد.. أما هو فكان علي قناعة تامة بأنه لم يسافر، بل انتقل إلي المستقبل ليحقق ذاته وأحلامه التي طالما كانت تراوده في مصر وحالت العادات والتقاليد والبيروقراطية والظلم في كثير من الأحيان بينها وبين النور.
وصل الفتي إلي مطار فيينا واستقل القطار الداخلي إلي محطة القطار الدولي المتجه إلي الغرب (فيست بانهوف)، ثم استقل القطار قاصدا ألمانيا الغربية سابقا. قبل وصول القطار إلي الحدود مع ألمانيا وعند آخر محطة نمساوية وقف فيها القطار اعتذر مفتش شرطة الحدود للفتي وطلب منه في أدب جم النزول من القطار لانه غير مسموح له بالدخول إلي ألمانيا لعدم حصوله علي فيزا ولا يكفي حصوله علي موافقة احدي الجامعات الألمانية للدراسة بها.
نزل الفتي مستسلما لأقداره وترك الحقيبة علي رصيف المحطة ثم تلمس بعصاه بعض درجات نزل عليها إلي الشارع مباشرة.
في الثانية عشرة منتصف الليل وقف الفتي بشارع المحطة في القرية التي ينام أهلها في التاسعة مساءا إلا بعض السكاري ومرتادي المقاهي والحانات.. وبعد أكثر من ساعة بدأ صوت محرك سيارة يدنو إلي أذنه ويقترب صوته رويدا رويدا كلما اقتربت السيارة منه حتي وقفت أمامه.. ونزل منها قائدها رجل نمساوي من أهل القرية فوجد شابا أسمر اللون أيقن أنه أجنبي وكفيف لكنه لاحظ أنه يتحدث بلغة ألمانية رفيعة بمستوي لا يتحدث بها إلا النخبة المثقفة في ألمانيا.. فأصطحبه ليعرف منه تفاصيل القصة الغريبة لهذا الغريب..
الحكاية من البداية
في سن السادسة أصيب الطفل بمرض مجهول في عينيه انتهي به الأمر إلي الإصابة بالعمي رغم ما بذلته أسرته من جهود لإنقاذه بعد أن فشلت العملية التي أجريت له في مستشفي قصر العيني.. لم يكن سهلا علي طفل في هذه السن أن يتقبل هذه النتيجة بسهولة فظل بعدها يبكي بكاء شديدا وألم به حزن صاحبه فترة طويلة.. ولكنه في النهاية أيقن أنها الأقدار التي لا تستطيع أن تقف أي قوة في الكون أمامها فاستسلم لها راضيا وارتضي بالظلمة التي قدرها الله له طيلة حياته.
السطور السابقة ليست جزءا من قصة الأيام لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ولا بعضا من مشاهد فيلم الكيت كات الذي جسد فيه الفنان المبدع محمود عبدالعزيز شخصية الشيخ حسني الذي يسخر من المبصرين لأنهم لم يستطيعوا أن يروا ما يراه هو .. فهذه السطور هي الخيط الأول في أغرب قصة كفاح للشاب المصري الكفيف ممدوح الشرقاوي..
ولد ممدوح في المطرية لأسرة مكافحة كان فيها الأب موظفا بسيطا محدود الدخل مسلما أمره للحياة التي ظلت تقهره حتي تقاعد عن العمل ببلوغه السن القانونية. التحق الشرقاوي بمدرسة المكفوفين بحمامات القبة وحصل منها علي الشهادة الابتدائية بتفوق.. وواصل تفوقه في مدرسة طه حسين التي حصل منها علي الاعدادية والثانوية..
الدراسة المستحيلة
وعندما اقترب من المرحلة الجامعية أدرك الشرقاوي أن فقد بصره سيكون سببا يمنعه من الدراسة التي يميل إليها وهي الدراسة التقنية.. فحاد عن التفكير في هذا المجال، وفكر في دراسة اللغات كمجال يمكنه أن يتفوق فيه وخاصة أنه متفوق أساسا في اللغتين الإنجليزية والفرنسية.. واختار اللغة الألمانية ليدرسها بكلية الألسن جامعة عين شمس.. ولأن دراسة هذه اللغة ستجعل ممدوح يحتاج إلي مساعدة شخص آخر نظرا لصعوبتها ومشاكلها بالنسبة لفاقد البصر لذلك أقنع شقيقه الذي يصغره بأربع سنوات أن يتعلمها أيضا وبدأ الاثنان معا.. واستعان بشقيقه في تحصيل الدروس والشرح وركز علي ما أنعم الله عليه بذاكرة قوية.. وواظب علي حضور المحاضرات.. واعتاد علي طريقة برايل في التعلم. وفي الامتحان رفضت الجامعة أن تكتب ورقة الإجابة بالآلة الكاتبة التي كان يتقنها وكانت تكلف شخصا آخر ليكتب ما يمليه عليه ممدوح.
وضع الشرقاوي التفوق نصب عينيه فاجتهد ودرس بجدية.. فبمجرد انتهاء العام الدراسي كان ممدوح يبدأ في العام الذي يليه بإصرار غريب وكأنه يريد الانتهاء من الدراسة بسرعة أكبر من زملائه.
حلمه الأول
نعم كان يريد الإسراع لأنه دخل الجامعة وحلمه كان السفر إلي الخارج ليحقق ذاته وخاصة أنه يؤمن بأن اللغة التي يملك مفاتيحها هي السلاح الأقوي في أي مكان.. ومنذ العام الأول بدأ يعد عدته للسفر فكان يدخر من مصروفه ومن المنحة التي كان يحصل عليها تكريما لتفوقه.
تفوق ممدوح في الفرقة الأولي والثالثة وحصل علي المركز الثاني في الفرقة الثانية.. وتقديرا لذلك التفوق حصل علي رحلة صيفية كمنحة إلي ألمانيا أكدت في نفسه ضرورة السفر لا محالة..
الشعور بالإنسانية لأول مرة
وعن هذه الرحلة يقول الشرقاوي: إنه شعر بأنه يتعامل كإنسان لأول مرة في حياته.. فكان زملاؤه الألمان يدعونه للذهاب للسينما والمسرح والتنزه بعد أن كان ينظر إليه الآخرون علي أنه كفيف لا حق له في التمتع بالحياة مثلما يتمتعون هم بها.. فقبل ذلك لم يكن من حقه أن يحلم بدخول السينما أو المسرح أو حتي يرافق أيا من أفراد أسرته عند زيارة أحد الأقارب.. فالجميع كانوا يعتبرونه عالة عليهم ولا أحد يريد أن يكلف نفسه عناء مساعدته حتي أقرب أقاربه.
أنهي ممدوح مرحلة الجامعة بتفوق أعطاه حق العمل كمعيد، لكن.. أحد أبناء الأساتذة الذي يليه في الترتيب حظي بهذه الوظيفة.. اشتاط الفتي غيظا من الظلم الذي وقع عليه ولم يسلم به فسلك الطرق القانونية بمساعدة أستاذة في نفس الكلية حتي رفع عنه الظلم واسترد حقه المنهوب..في تلك الأثناء كان قد راسل جامعة ألمانية وحصل منها علي الموافقة علي الدراسة بها.. وعندما طلب من كليته في مصر السماح له بالسفر لم يوافق المسئولون إلا بعد أن طلب السفر علي حسابه الخاص وحصل علي إجازة من جامعة عين شمس..
وعندما طلب فيزا من السفارة الألمانية في القاهرة للسفر للدراسة رفض القنصل لأنه لم يقدم أي ضمانات مالية لأن والده موظف بسيط لا يتجاوز مرتبه أربعة دولارات شهريا.
الطريق إلي ألمانيا
في هذا الوقت كان السفر إلي النمسا سهلا ففكر عن طريقها في دخول ألمانيا، وسافر إلي النمسا فكانت قصته مع قائد السيارة الذي أصطحبه معه وحجز له غرفة ببنسيون في القرية الواقعة علي الحدود مع ألمانيا ودفع له أجرة الليلة.. ولم ينم الرجل إلا بعد أن عرف هذه القصة الطويلة..
وفي الصباح حضر الرجل النمساوي إلي الشرقاوي في البنسيون وأقرضه ألفي شيلنج نمساوي لأنه لم يكن معه إلا خمسون شيلنجا فقط واشتري له تذكرة قطار حتي مدينة سالزبورج حيث سينتظره هناك رجلا شرطة ليساعداه في الطريق حتي مبني القنصلية الألمانية لكي يطلب الفيزا ويعاود السفر مرة أخري في قطار اليوم التالي.. هكذا توقع الرجل النمساوي ويحلم الشاب المصري ممدوح..
وفي القنصلية الألمانية اقتنع الشرقاوي بأنه ليس له الحق في دخول ألمانيا.. وهنا فكر في البقاء بالنمسا فترة من الوقت حتي يحصل علي فيزا لألمانيا..
اتصل رجلا الشرطة بالرجل النمساوي وأبلغاه بأن القنصل الألماني رفض منح الشرقاوي الفيزا فطلب منها أن يسألاه عما سيفعله فأبلغهما بأنه سيعود إلي فيينا.. أما الرجل النمساوي فقد نشر قصة الشرقاوي في الصحافة النمساوية وانتقد فيها الحكومة الألمانية لإنها لم تراع الجوانب الإنسانية بالنسبة لطلب الشرقاوي نظرا لظروف فقد بصره..
وعندما قرأ السفير الألماني الانتقادات الحادة التي وجهها الصحفي النمساوي للحكومة الألمانية طلب مقابلة الشرقاوي الذي زادت قناعته بعد لقائه بالسفير في فيينا بأن السفر إلي ألمانيا في هذا الوقت من رابع المستحيلات لعدم تقديم ضمانات مالية.
النمسا وأول دكتوراه
بقي ممدوح في النمسا وحصل فيها علي قرار استثنائي بمنحة للدراسة بجامعة فيينا حيث درس الأدب النمساوي . قبلها عاش فترة شهرين علي الخبز والماء فقط حتي يوفر من المال القليل الذي أقرضه الرجل إياه.. وبالمنحة عاش بشكل طبيعي مركزا علي دارسته التي اعتبرها همه الأول.. وكللت جهوده أخيرا بالنجاح حيث حصل علي أول دكتوراه..
وعن مرحلة الدراسة بالنمسا يقول الدكتور ممدوح: أنه استعان ببعض الأصدقاء في القراءة.. ويضيف: أن الأوروبيين يقدمون المساعدة لمن يحتاجها بشرط أن يكون جادا وصادقا. وينصح كل من يرغب في السفر بأن يتسلح باللغة لأنها مفتاح أي حضارة. ويستطرد أنه بدأ يسمع اللغة من جديد من خلال أفلام الكرتون ومن خلال الإذاعة ووسائل الإعلام الأخري.
ففهم أي شعب يتطلب معرفة لغته وطريقة تفكيره وثقافته وعاداته وتقاليده وهو ما نجح الدكتور الشرقاوي في تحقيقه.
استقالة من الجامعة
ثم سافر إلي ألمانيا مرة أخري بعد ذلك، وظل بها عامين حصل خلالهما علي الدكتوراه الثانية. وفي أول إجازة لمصر ذهب إلي الجامعة لكنه وجد أن الأمور كما هي لم تتغير، فقدم استقالته.وبعد ذلك عمل في وزارة الخارجية النمساوية بقسم المعلومات، ثم قدم استقالته ليدرس الكمبيوتر والبرمجة والتقنيات حيث لم يجد في النمسا عائقا أمام هذه الدراسة.
عمل بعدها مستشارا لشركات الكمبيوتر وقام بتطوير برامج قام بتعريبها لخدمة المكفوفين في مصر والعالم العربي.. وفي الإجازة الثانية شارك في موتمر للمكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة، وكان قد أحضر معه بعض الأجهزة للمكفوفين في مصر تبرعا من الشركات التي يعمل معها، لكنه صدم من المعوقات الإدارية فرجع إلي النمسا ومعه الأجهزة مرة أخري!!
ثروة ضخمة
وعن عمله في مجال الكمبيوتر يقول الدكتور ممدوح: أنه كون ثروة كبيرة منه وهو الحلم الثاني الذي كان يريد تحقيقه لأنه عاش في مصر فقيرا، لكنه مع ذلك تخرج وجميع أشقائه في الجامعة. ثم شغل وظيفة في محافظة فيينا حيث يترأس قسما جديدا يسمي الإسعاف الاجتماعي الذي يقدم المساعدة للمواطنين الذين لديهم مشاكل. وأخيرا لا تتعجب عزيزي القاريء إذا قلت لك إنني شاهدته بنفسي يقوم بتركيب جهاز ساتالايت (الدش) بجميع مكوناته أكثر من مرة..
</H1>